القابلية للاستعمار :
مصطلح "القابلية للاستعمار" هو من المفاهيم التي برزت بقوة في الفكر العربي الحديث، و أول من تحدث عنه بهذا اللفظ والتحليل المعمق مالك بن نبي، المفكر الجزائري المعروف، وذلك في منتصف القرن العشرين.
والذي يُعد من أكثر المفاهيم جرأة ووضوحًا في تشخيص مشكلات العالم الإسلامي.
ما معنى القابلية للاستعمار؟
القابلية للاستعمار هي حالة داخلية التي يكون عليها المجتمع المستهدف ، وليست مجرد نتيجة لعدوان خارجي. أي أن الاستعمار لا يُفرض من الخارج فقط،
بل يجد أرضًا خصبة في الداخل تستقبله.
يرى مالك بن نبي أن الاستعمار لا يسيطر على الشعوب بالقوة فحسب، بل لأن هذه الشعوب فقدت مناعَتها الحضارية، فأصبحت قابلة للاستعمار، تمامًا كما أن الجسم الضعيف يصبح قابلاً للمرض!
وقد ظهر هذا المفهوم في عدة مؤلفات مالك بن نبي ، وأهمها:
1. "شروط النهضة"
هذا الكتاب يُعتبر من أبرز ما تناول فيه هذا المفهوم، وبيّن أن النهضة لا يمكن أن تتحقق دون إزالة القابلية للاستعمار.
2. "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي"
تكلّم فيه عن العوامل الفكرية التي تجعل المجتمع مهيّأ لقبول السيطرة الأجنبية.
3. "وجهة العالم الإسلامي"
توسع فيه في تحليل العلاقة بين التخلف الحضاري والاستعمار.
ومن الأمثلة التاريخية والواقعية للقابلية للاستعمار
1. حالة الجزائر قبل الاستعمار الفرنسي (1830):
كانت البلاد غارقة في الجهل، تتقاذفها الصراعات الداخلية، مع ضعف واضح في التعليم والإنتاج و الإعداد العسكري لصد عدوان الغزاة ،
مما جعلها لقمة سائغة في فم المحتل الفرنسي الغاصب !
2. المجتمعات المهزومة نفسيا ، و التي تتخذ من التقليد الأعمى ديدنا
فتقلِّد الغازي في لباسه ولسانه وفكره، فهي هنا لا تستعمر فقط خارجيًا، بل داخليًا أيضًا.
3. الاعتماد على "الخارج" بدل بناء الذات:
كأن تستورد الدول كل شيء حتى الأفكار والنماذج دون نقد أو تمحيص!
هي دول حكمت على نفسها بالتبعية الماحقة للهوية والشخصية!
في كتابه "شروط النهضة" (نُشر عام 1948)، تناول مالك بن نبي هذا المفهوم، مشيرًا إلى أن الاستعمار لا يفرض نفسه فقط بالقوة، بل يجد أرضًا خصبة في المجتمعات التي فقدت مناعتها الحضارية،
أي تلك التي أصبحت "قابلة للاستعمار".
وفقًا لمالك بن نبي، فـ"القابلية للاستعمار" هي حالة داخلية في الشعوب المستَعمَرة، تنبع من التخلّف، والجهل، والفراغ الفكري، والانهيار الأخلاقي، مما يجعلها فريسة سهلة للاستعمار الخارجي.
أما مؤسس علم الاجتماع ابن خلدون، في القرن الرابع عشر، فهو لم يستخدم مصطلح "القابلية للاستعمار" بصيغته الحديثة كما فعل مالك بن نبي، لكن تحدث عن الفكرة نفسها من حيث الجوهر، وإن كانت بلغة عصره وتحليله التاريخي والاجتماعي.
ففي مقدمته الشهيرة، أشار ابن خلدون إلى:
ضعف الدولة عند الترف والانغماس في الملذات حكاما ومحكومين!
هو الذي يعجل بنهاية الدول!
فالانهيار الأخلاقي وشيوع الفجور و الانحلال ، وغياب العصبية، والتكاسل عن الإنتاج كلها تؤدي إلى سقوط الدولة ووقوعها تحت هيمنة قوى أخرى متربصة!
و ركز على دور الفساد الداخلي والانحطاط الحضاري وشيوع الظلم كأسباب مباشرة تجعل الأمة عرضة للغزو والسيطرة.
بمعنى آخر، ابن خلدون وضع الأسس الأولى لفهم كيف ولماذا تسقط الأمم، وهو بذلك اقترب جدًا من فكرة "القابلية للاستعمار"، لكن دون أن يصوغها كمفهوم نظري مستقل كما فعل مالك بن نبي.
يمكن القول إن مالك بن نبي بَنَى على إرث ابن خلدون، وبلور المفهوم بصيغة تتماشى مع سياقات الاستعمار الحديث.
حين نقرأ في فكر المفكر الجزائري مالك بن نبي، ونتأمل تحليله العميق لمفهوم "القابلية للاستعمار"، يبدو لنا للوهلة الأولى أن هذا المفهوم وُلد من رحم القرن العشرين فقط، في سياق المواجهة الفكرية مع الاستعمار الغربي الحديث. لكن نظرة أعمق في التاريخ تكشف أن جذور هذا المفهوم تمتد إلى قرون بعيدة، وتحديدًا إلى فكر عبد الرحمن بن خلدون، مؤسس علم الاجتماع وأحد أعمق المحللين لسقوط الدول والمجتمعات.
ابن خلدون، في مقدمته الشهيرة، لم يتحدث عن الاستعمار بوصفه غزوًا أجنبيًا فحسب، بل حلّل كيف يصبح المجتمع من الداخل هشًّا، حين تضعف العصبية، ويسود الترف، وتتفكك الروابط الاجتماعية. عندها تصبح الأمة لقمة سائغة للقوى الخارجية. إنها بداية الانهيار من الداخل، قبل أن يتدخل الخارج.
أما مالك بن نبي، فقد أعاد قراءة هذه الظاهرة بلغة عصره، فصاغها في مفهوم جديد سماه: "القابلية للاستعمار". وهو لا يعني به فقط وقوع الاستعمار،
بل استعداد بعض المجتمعات نفسيًا وثقافيًا لقبوله، بل والتعايش معه، نتيجة التخلّف، وتعطيل الفكر، والاستقالة الحضارية.
الفرق بينهما أن ابن خلدون قدّم تشخيصًا تاريخيًا لدورة صعود وسقوط الدول، بينما مالك بن نبي قدّم علاجًا نفسيًا وثقافيًا لأزمة الإنسان المسلم الحديث. كلاهما، رغم تباعد الزمن، اتفقا على الحقيقة المرّة:
الاستعمار لا يدخل من الباب، بل يُفتح له من الداخل.
و ما أكثر الأبواب التي فتحت من الداخل لأعدائنا المتربصين بنا!!
إن قراءة ابن خلدون ومالك بن نبي معًا تفضح الوهم الذي يقول إن مشكلتنا فقط في "العدو الخارجي"، وتضع الإصبع على الجرح الحقيقي: الفراغ الحضاري في داخلنا.
وعليه يرى مالك بن نبي انه لتشفى
الأمة الإسلامية من هذا المرض، عليها
أن تأخذ بأسباب النهضة..
أولاً: شروط النهضة الأساسية (المعادلة الحضارية)
النهضة = إنسان + تراب + وقت
لكن بشرط أساسي: أن يتفاعل هذا الثلاثي تحت تأثير فكرة عليا.
الإنسان: لا يُقصد به الكائن البيولوجي، بل الإنسان القادر على التفكير، والمبادرة، وتحمل المسؤولية.
التراب: أي الموارد المتاحة، الأرض، المال، الإمكانيات الطبيعية.
الوقت: عنصر الزمن، والتخطيط بعيد المدى، والانضباط.
ثانيًا: الفكرة العليا
وهي المبدأ الذي يوحّد الناس ويمنحهم اتجاهًا مشتركًا، كالرسالة الروحية أو الغاية الكبرى من الوجود.
و في الحضارة الإسلامية عقيدة التوحيد هي الفكرة العليا.
بدون هذه الفكرة، تظل العناصر الثلاثة مادة خام، غير قادرة على إنتاج حضارة.
ثالثًا: إزالة القابلية للاستعمار
لا نهضة بدون تحرر داخلي أولًا.
يجب التخلص من الذهنية المستعمَرة، و ليس فقط من المستعمِر.
فكر ابن نبي يصرّ على أن مشكلتنا ليست في “ما يفعله الاستعمار بنا”، بل في “ما لم نعد قادرين على فعله بأنفسنا”.
رابعًا: إصلاح الفكرة الدينية
لم يكن يقصد مهاجمة الدين، بل تنقيته من الشوائب التي علقت به من تقاليد وأعراف جامدة.
الدين عنده يجب أن يكون دافعًا للنهضة لا أداة للجمود.
خامسًا: بناء الإنسان الفعّال
لا حضارة بلا أخلاق و بلا عمل.
الإنسان الذي لا يحترم الوقت، ولا يتقن عمله، ولا ينهض بمسؤوليته، لا يمكنه بناء حضارة، ولو كانت الأرض تزخر بالثورات!
ما زالت فكرة مالك بن نبي حاضرة بقوة، خاصةً في زمن الهيمنة السياسية والاقتصادية والإعلامية الغربية على العالم خاصة الإسلامي ، حيث تحولت "القابلية للاستعمار" من استعمار عسكري إلى استعمار اقتصادي و ثقافي وفكري ناعم.
نعومة جلد الأفعى البراق! وهي تلتف بهدوء حول ضحاياها وهم لا يشعرون!!

تعليقات