غدا عيد ميلاد الإمبراطور



       غدا عيد ميلاد الإمبراطور ...! غدا عيد ميلاد الإمبراطور ... ! صاح طفل هزيل وهو يلوح بجريدة الصباح اليتيمة ... علَّق أحدهم قائلا في كلام يشبه الهمس : عيد ميلاده ... عيد زواجه ... ما لنا و لهذا ؟! 
لم يشغلوننا بقصصهم وتفاهاتهم؟ 
فرد عليه آخر بقوله : اسكت ...!  للطرقات آذان ..! 

 

و إلا زارتك خفافيش الظلام ... !

محطة الحافلات غزتها حشود المنتظرين ، وقد ارتسم الملل على وجوههم الذابلة ... ساعة من الانتظار و الحافلة لم تأت ...!
رجلان يقفان بعيدا عن الجمع ،  يبدو من ثيابهما أنهما ريفيان يعملان في ورش البناء في المدينة ،  أكبرهما سنا كان يثرثر دون توقف ، أما الأصغر فيبدو أنه لم يكن يسمع ! بل هو  غارق في حديث داخلي طويل ...
                       
_ الطبيب : لو تأخرت قليلا لكان ابنك في عداد الأموات ...!
_ في قريتي الجبلية لا يوجد مستوصف ، و أقرب مشفى يبعد عنها مئات الكيلومترات .. ظننت مخفضات الحرارة تفي بالغرض ..
هز الدكتور رأسه كأنه لا يريد سماع قصة مألوفة متكررة ..!

_  نظر العامل إلى ابنه في حنان دافق  ، 
 وتمتم : الحمد لله أنني لم افجع فيك لقد انتظرتك سنين طويلة ... !

غير بعيد عنهما وقفت امرأتان ، و قد بدا عليهما الإعياء ، و على وجهيهما رسمت السنون العجاف خطوطها التي لا ترحم ، فشاختا قبل الأوان ...!!
نظرت احداهما إلى رجليها متأملة حذاءها المهترئ ... ثم استطردت تقول : 
_ أصدقك القول ، عندما تضيق بي الدنيا ، أفكر في أن أترك كل شئ وأهيم على وجهي ، حتى لا أرى أبنائي الأيتام  يعانون  أمامي و أنا بلا حيلة! 
 يعانون من سوء التغذية،  من الحر، من ضيق المسكن،  من طلباتهم المشروعة المؤجلة دائما ..! ولكن عندما يدورون حولي كل مساء عند رجوعي من العمل بعد يوم شاق ، كالأفراخ يتشبثون بأطراف ثيابي و يرتمون علي ، أطرد هذه الفكرة من رأسي ... ! و في الليل عندما يخلد الجميع الى النوم ، أسلم نفسي للبكاء متضرعة إلى الله أن يعينني على هذا الحمل ...! 
شدت المسنة على يدها : كان الله في عونك ، ليس الأمر سهلا عندما تصبح المرأة الأم و الأب في آن واحد ..
 أما أنا فإني أحمد الله أن زوجي لم يترك لي أولادا ...! 
وصلت الحافلة أخيرا تتهادى ،و فتحت أبوابها،و تسابق الجميع يدفع بعضهم بعضا ،ليظفروا بحيز داخلها ، فاتسع قلب الحافلة ، 
و لم تغضب أحدا ، ثم انطلقت و هي تتمايل ، تجوب شوارع المدينة التي بدت في حلة غير معهودة ...!

وفهم الناس سر النشاط المفاجئ الذي عرفته شوارع العاصمة الرئيسة منذ أسابيع ... إن الإمبراطور سيقيم احتفالا بعيد ميلاده السبعين لم تشهده البلاد من قبل و دعا إليه الملوك والأمراء والرؤساء و رجال الأعمال والمال والمشاهير و ... وحتى لا تقع عيون الكبار على بعض القبح المحتمل، تمّ ذرّ بعض الزينة  هنا..! و هناك..!   لقد كانت الجرافات الضخمة  تحطم أكواخ القصدير، التي نمت كالفطر على أطراف المدينة ، أما الطرق فقد عبدت بعد طول عهد بالأوحال، و البرك المائية. 
و دخلت المدارس في عطلة إلزامية لاستقبال الضيوف  الوافدين من كل مكان، و رُصّ التلاميذ و الطلبة والمواطنون  رصا  ، على الارصفة وتحت شمس لاهبة لتريد الشعارات
والهتافات والتلويح بالأيدي والأعلام ،حتى جفت أجسامهم وأصيب الضعفاء منهم بالإغماء بسبب ضربة الشمس ولكن لا يهم ..!
(يموت  الشعب كله ،  ولا يموت الإمبراطور..) 
 و في ليلة الاحتفال أضيئ ألف مصباح و مصباح حول القصر...فبدا   كالجوهرة المتلألئة اليتيمة التي غزت الظلام  الكاسح ...!!
و يدخل الإمبراطور السبعيني قاعة الإحتفال الفخمة.. ببدلته العسكرية السوداء المطرزة .. و قد تدلت النياشين لامعة تحت الأضواء .. لكن البدلة الأنيقة  ما استطاعت ان تخفي كرشا متهدلا .. ، كما  أن الابتسامة الباردة  برودة ليالي يناير  ،  ما استطاعت أن  تخفي وجها عبوسا..! 

وقف المدعوون و دخلوا في موجة تصفيق  .. بدت  وكأن لا آخر لها .. و أخيرا رفع الإمبراطور المفدى  قاهر الشرق والغرب...! يده مشيرا لهم :
 أن توقفوا.. و معلنا بداية الإحتفال، 
ارتفعت الألحان الموسيقية و استفتح المهرجون عرضهم بحركات بهلوانية ... أضحكت  الإمبراطور وتهدج لها بطنه .. وانتقلت عدوى الضحك الى المدعوين ..
 وفي ساحة القصر كان الخدم يجتهدون  في تجهيز مأدبة العشاء ... بُسطت الموائد الضخمة و رُصت فوقها ألوان من الأطعمة والأشربة... عجول مشوية وديك محمرة و مقبلات و فواكه مشكلة ..وأطعمة أخرى مجهولة الاسمو المذاق... 
كانت ليلة من ليالي شهريار .. ولكن غابت عنها شهرزاد  فلم تُعرف التفاصيل للعوام ...! 
وشاركت الجمادات في هذا التعتيم..! حيث ارتفعت الأسوار  الشاهقة حول القصر! و خلفها ارتفعت اسوارأخرى .. فلم تفلت شيئا مما كان يحدث فيه 
الى حيث تعيش الدهماء..! 
فاصلة بين كوكبين !
كوكب يعج بالحياة وآخر  محكوم عليه بالموت جوعا  وظلما وقهرا.. 

وفي الصباح أشرقت شمس جديدة على العبيد ، 
و في مكب النفايات ..!  اجتمع خليط من الناس أطفال ونساء و رجال ، 
ليس لهم من الآدمية إلا الاسماء..! ينتظرون ما ستجود به عربات النفايات..الكل كان ينتظر ، منهم من كان جالسا على تلال من القمامة ، و البعض كان منشغلا  بإصلاح ثوب أو آلة ،  أما البعض الآخر فقد كان ينكت الأرض نكتا لعله يجد شيئا ذا قيمة أخطأته العيون..!
وأخيرا دخلت شاحنة  المكبّ ، أفرغت حمولتها ثم طفقت راجعة.. هاج  الحشد  و ماج ، علا الصراخ ، واحتدم الصدام..تجاذبوا  بقايا الطعام ، وما وقعت عليه أيديهم من أشياء لم يحسنوا تسميتها..! 
وبعد  بضعة  دقائق هدأ الحشد..
وأخذ كل  واحد ما غنمه وبدأ بالتهامه بهدوء ، حتى أنهم تبادلوا بعض ما غنموا تكرما على بعضهم  البعض. .!

مالت الشمس الجديدة إلى المغيب..
وبدأت خيوط الظلام تتسلل شيئا فشيئا ، و تلف المكان بإحكام.. 
وغابت الأشباح الآدمية
في بوتقة دامسة.. 
في انتظار شمس أخرى  تطهر المكان...
وكل عام والإمبراطور بخير..!

                عائشة مسعود

تعليقات

‏قال عائشة مسعود
عندما يسمى حاكم دولة فقيرة نفسه إمبراطورا وشعبه يتسول اللقمة...