المقدمة:
أعيش مع التوحد
هي يوميات يربطها خيط رفيع يشق القلب شقا ، ويمضي إلى غد غير واضح المعالم، ولكنها مع ذلك مبعثرة
تبعثر الأحلام التي لم تتحقق ، والقصص الجميلة التي لم تكتمل..!
و الرسومات التي تنتظر من يضع لمساته الأخيرة عليها..!
يوميات سُكب فيها الدمع لا الحبر..! لعل في ذلك تخفيفا للألم وتسكينا للوجع..!
عندما عرفت التوحد حق المعرفة،
بعد بحث طويل شاق و مؤلم، لم تعد الحياة بالنسبة لي تسير على النسق الذي كانت عليه ،
لم تعد الحياة كما يعرفها الناس ، أو معظم الناس ، لقد أصبحت كالحلم الموجع الذي لا نهاية له ، أو الجرح النازف الذي لن يندمل ، شيئا خطه القدر لحكمة غابت عن العقل القاصر ولكنه ماض إلى منتهاه بكل أحزانه ومواجعه !
ومع الأيام يصبح كل هذا الألم والحزن و الترقب والتمني، هذا الخليط الذي
يبدو متناقضا ومنسجما في آن واحد!
جزءًا من الحياة أو هو الحياة بتفاصيلها الواضحة و المبهمة ،
الظاهرة و الخفية ، شيئا من اليأس و الأمل ،السقوط والنهوض ، الضحك والبكاء ! تخففه النفحات الربانية في لحظات الصفاء وحسن الظن بالله!
وتعمقه لحظات الإنكسار والسقوط
في هوة اليأس!
يوم تعرف ان ابنك ، فلذة كبدك ، مصاب بالتوحد الموصوف بالشديد تفقدك الصدمة صوابك ،
تسحق مشاعرك ، فتظل تحت وطأتها إلى حين أن تلملم شتات نفسك
و تسترجع.. !
لكنك أبدا لن تكون ذات الإنسان الذي كان..!
جاءك ما أهمك ، و زعزع كيانك ، فأنت مطالب بأن تقف لترتب حياتك من جديد ، و حياة من يعيش معك وفق الطارئ الجديد الذي سيصبح واقعا مهيمنا بآلامه و عثراته وكل تبعاته الثقيلة !
وقد كان ... ، توارت الأحلام
وتأجلت الأمنيات و وُضعت أشياء أخرى في صندوق أُحكم إغلاقه و أهملت في ركن منزو لانها ستغيب
من قاموس حياتك إلى غير رجعة !
سيصبغ التوحد حياتك ، يومياتك ، و أخص خصيصة لديك بصبغته ! ستصبح الدموع قريبة ، و الحزن
رفيقا ، ستتعايش مع التوحد وأنت كاره له لأنه سرق بضعة منك!
انت و هو ستتجاذبان وتتصارعان ، ينتصر عليك مرة ، و تنتصر عليه أخرى ، ستسمي هذه اللحظات
انتصارات ، لأنك جذبت طفلك إلى عالمك فرحت بهذا وعددتها انجازات وهي كذلك!
ولكنها تظل قليلة إذا قورنت بهزائمك أمامه في أن تجعل طفلك طبيعيا..!
وكلما كثرت هزائمك انقطعت صلاتك بالدنيا و أسبابها والناس و وعودهم ،
و نفضت يديك من كل الذين تاجروا بضعفك واحتياجك وباعوك أوهاما وسرابا يحسبه الضمآن ماء !
توجهت الى الله تعالى بخالص الدعاء ورميت حملك عند بابه ليمدك بمدد من عنده ،
وقفت وقد أعلنت عن عجزك و قلة حيلتك!
عجزت ان تحدث تغييرا أو تحرز تقدما يذكر رغم العمل و التعب! و الكد و الاجتهاد!
واليوم بعد خمسة عشر عاما من رحلة البحث عن العلاج ، و تجريب كل ما هو متاح من برامج التأهيل والتدريب والعقاقير والمكملات... إلخ
انظر إلى ابنتي وإلى كل الأطفال الذين تعرفت عليهم طوال هذه السنين والذين يشملهم طيف التوحد بكل أنواعه ، فأرى أن كل واحد
منهم تقدم بطريقة ما ، و تميز في مجال ما إلى حد الذي سمحت به
حالته ! غير أن القاسم المشترك بينهم جميعا انهم جميعا ما برحوا التوحد..!
وإن تخففوا من بعض أعبائه! أطفال معظمهم لم يذق من طعام الحياة
إلا مرّها ، حتى أن بعضهم لا يتقن سوى البكاء والصراخ..!
كلهم بحاجة إلى عناية خاصة و دعم
أسرى واجتماعي لا ينقطع في كل مراحل الحياة ، هذا قدرنا، ونحن يا ألله رضينا ثم رضينا!
فتجاوز عنا عندما يغلبنا اليأس، و يطفو على القلوب الألم!
والحمد لله رب العالمين...
وللقصة بقية...
عائشة مسعود

تعليقات